السنغال- تحولات ديمقراطية، آفاق نفطية، وشراكات عربية واعدة.

المؤلف: عبدالرحمن كان10.23.2025
السنغال- تحولات ديمقراطية، آفاق نفطية، وشراكات عربية واعدة.

تتبوأ السنغال مكانة مركزية ذات أهمية استراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وقد أظهرت حكومتها منذ الاستقلال عام 1960م قدرة فائقة على صون الاستقرار والسلم الأهلي، دون أن تشهد أي انقلابات عسكرية، مما مكنها من تحقيق مكاسب جمة في المجالات السياسية والاقتصادية والاستثمارية، وذلك بفضل شراكاتها المثمرة مع الدول الصديقة.

على الرغم من ذلك، واجهت الدولة تحديات سياسية جسيمة في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث تفاقم الخلاف بين السلطة والمعارضة، واندلعت انتفاضة شعبية أثرت سلبًا على الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي. لكن الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2024م، ألهمت العالم مرة أخرى بالتغيير السياسي المنشود الذي اختاره الشعب، متحررًا من القيود التقليدية نحو الإصلاح، وذلك بتنصيب باسيرو ديوماي فاي رئيسًا للبلاد، بعد فوزه بنسبة 54.28% من الأصوات، مما يمثل منعطفًا حاسمًا في المشهد السياسي السنغالي.

⁠استقرار الديمقراطية في السنغال

تقع السنغال في غرب أفريقيا، وهي دولة تنعم بتاريخ عريق وتنوع ثقافي فريد، وتعتبر منارة للديمقراطية في المنطقة. حيث تعتبر من بين الدول الأكثر استقرارًا، وتتبنى مؤسسات الدولة نهجًا ديمقراطيًا في الحكم، وتتعامل بتفاعل بنّاء مع المجتمع المدني.

إلا أن الدولة شهدت تراجعًا في الممارسات الديمقراطية منذ عام 2020م، وتصاعدت الأحداث التي تعرقل المسيرة الديمقراطية للبلاد بشكل متزايد، بالتزامن مع صعود نجم المعارضة بقيادة عثمان سونكو، وتصاعد حدة التوتر السياسي، حتى توقع الكثيرون انهيار الدولة سياسيًا وانضمامها إلى قائمة الدول المنقلبة على الديمقراطية، في إقليم يعاني من ويلات الانقلابات السياسية المتكررة. لكن السنغال تمكنت من الخروج من الأزمات السياسية المتلاحقة التي عصفت بها في الفترة الأخيرة، بما في ذلك أزمة تأجيل الانتخابات، ويعزى هذا الاستقرار السياسي إلى عدة عوامل جوهرية، أبرزها:

الحوار الوطني: أدركت الحكومة السابقة خطورة الوضع الراهن، وعجزها عن تحمل الضغوط الشعبية المتزايدة جراء ما تعرضت له المعارضة من تضييق واضطهاد، مما دفعها إلى الدعوة إلى حوار وطني شامل. وعلى الرغم من رفض سونكو المشاركة في هذا الحوار، إلا أن ذلك لم يقلل من أهمية النتائج التي أسفر عنها في استعادة الاستقرار للبلاد.

الانتفاضة الشعبية: تسببت الاحتجاجات العارمة في خسائر مادية فادحة، وأدت إلى سقوط العديد من الضحايا. وخوفًا من تفاقم الأوضاع، كان لابد من الاستجابة لمطالب الشعب بإجراء انتخابات نزيهة تضمن عودة الأمن والاستقرار.

قانون العفو العام: أثمر الحوار الوطني عن قرار تاريخي، تمثل في تصويت البرلمان على مقترح "قانون العفو العام لجميع السجناء السياسيين"، وساهم هذا الإجراء بشكل كبير في استقرار الممارسة السياسية، وضمان انتقال سلس للسلطة بطريقة ديمقراطية.

نزاهة الانتخابات: ساهمت نزاهة الانتخابات في تحقيق الفوز المستحق لباسيرو ديوماي فاي، الذي رشحه سونكو لحمل الراية السياسية بعد منعه من الترشح، وقد عزز هذا النجاح من استعادة السلم الأهلي.

الدور الإقليمي والدولي للسنغال

على الصعيد الإقليمي، تضطلع السنغال بدور حيوي في منطقة غرب أفريقيا، من خلال تأثيرها الفاعل في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، إضافة إلى دورها كراعية للديمقراطية في المنطقة، ومساهمتها القيمة في تسوية الأزمات الأمنية.

وعلى المستوى الدولي، أدركت القيادة السنغالية الجديدة أهمية التفاعل السياسي البنّاء مع مختلف الشركاء، وتشارك السنغال بتاريخها الدبلوماسي العريق في مبادرات الأمم المتحدة، مما أسهم في تعزيز تأثيرها الدولي لصالح القارة الأفريقية. ويؤكد ذلك عقد وزير الاقتصاد والتخطيط والتعاون د. عبد الرحمن سار، يوم الأحد 10 يونيو/حزيران 2024م، جلسة عمل مثمرة مع وفد صندوق النقد الدولي، الذي كان في مهمة رسمية إلى السنغال؛ بهدف إجراء المراجعة الثانية للبرنامج الاقتصادي.

إن التغيرات السياسية الأخيرة التي أعقبت انتخابات 2024م، تمثل اختبارًا حقيقيًا للسنغال، يهدف إلى إعادة تأكيد دورها المحوري على الساحتين: الدولية والعربية، وتسريع وتيرة التعافي من التحديات الاقتصادية. وتتجه الإستراتيجية الدولية للسنغال نحو تعزيز الشراكات الاستثمارية في قطاعات واعدة، مثل: الطاقة، والذكاء الاصطناعي، والرقمنة والتكنولوجيا، والثروة الحيوانية. وتحقيقًا لهذه الغاية، تعمل الحكومة على إعادة التفاوض في الاتفاقيات الاستثمارية والتجارية، وتعديل واعتماد المراسيم القانونية المنظمة للتوجه الإستراتيجي لقطاعي النفط والغاز، ومن المتوقع أن يسهم الإنتاج النفطي للسنغال في تعزيز موقعها الجيوسياسي على المستويين الإقليمي والدولي.

السنغال والعالم العربي: آفاق التعاون

في هذا السياق الجيوسياسي المتغير، تبرز أهمية السنغال كنموذج يحتذى به في التطور الديمقراطي والتنمية المستدامة في منطقة غرب أفريقيا، وكفاعل رئيسي في الدبلوماسية الإقليمية والدولية. وبإمكانها أن تضطلع بدور محوري في مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية، من خلال تعزيز الشراكات الإستراتيجية، وتوقيع اتفاقيات استثمارية مع الدول العربية الرائدة في مجال إنتاج النفط، ويعزز ذلك وجود قواسم مشتركة تجمع السنغال والدول العربية، من بينها الروابط الدينية والثقافية الوثيقة، إضافة إلى انتشار واسع للغة العربية، سواء في التعليم أو في الحياة اليومية.

وعلى الصعيدين الاستثماري والثقافي، شهدت العلاقات بين السنغال والعالم العربي توسعًا ملحوظًا في مجالات: التجارة، والاستثمار، والتبادل الثقافي. وتعتبر السنغال من بين الدول الأفريقية الأكثر استفادة من التمويلات والمساعدات التي تقدمها الدول العربية لأفريقيا، وتحتل المرتبة الثانية بعد غينيا، وفقًا لتصنيف BADEA. إلا أن هذه الاستثمارات لا تزال محدودة، وتأتي زيارة وزيرة الخارجية السنغالية ياسين فال إلى دولة المغرب – مع وصول السلطة الجديدة – تأكيدًا على الثقة المتبادلة بين البلدين، وهي زيارة إستراتيجية تهدف إلى تعزيز التعاون لتحقيق تأثير إيجابي في المنطقة، واستثمار هذه العلاقة في تشجيع الاستثمارات مع البلدان الأفريقية المجاورة والدول العربية.

وفي هذا الإطار، اكتشفت السنغال أولى قطرات النفط، مما أدى إلى نقاش واسع حول النسب المئوية التي ستحصل عليها الدولة لدفع عجلة الاقتصاد والتنمية. وعلى هذا الأساس، تم اعتماد وثيقة الميزانية والبرمجة الاقتصادية متعددة السنوات 2024-2026 (DPBEP) في اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 12 يونيو/حزيران، وتتضمن هذه الوثيقة تفاصيل واضحة حول حصص الدولة، والمبلغ الذي سيتم سداده كتكاليف استثمار، بالإضافة إلى حجم التصرف المتاح من الإنتاج النفطي.

وفيما يلي أهم فرص التعاون التي يمكن للسنغال والدول العربية اغتنامها لتحقيق التنمية المستدامة:

تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي:

تواجه السنغال تحديات اقتصادية جمة، وتسعى الحكومة جاهدة إلى تحفيز النمو الاقتصادي من خلال الاستثمار الأمثل في قطاع النفط، ويؤكد عثمان سونكو أن حصص البلاد من الموارد الطبيعية ضئيلة، وأن إنتاج البترول بكميات كبيرة هذا العام، دفع الحكومة إلى اتخاذ قرارات جريئة لمراجعة الاتفاقيات الاستثمارية، وإعادة التفاوض مع الشركات الأجنبية، بهدف تخصيص جزء أكبر من العائدات لصالح السيادة الوطنية، واستغلالها في تحسين الظروف المعيشية للمواطنين.

كما تسعى السلطة إلى إجراء مراجعات شاملة للبرنامج الاقتصادي، ووضع مقترحات وإستراتيجيات جديدة تهدف إلى تخفيف عبء الديون؛ وستعزز هذه الخطوة من التعاون التجاري والاقتصادي مع الدول العربية كشركاء فاعلين ومؤثرين. وتعتبر إعادة التفاوض في العقود فرصة سانحة للدخول في استثمارات ضخمة مع السنغال، تعود بالنفع على كلا الجانبين.

الاستثمار النفطي:

تتطلع القيادة السنغالية إلى تعزيز وتجديد علاقاتها المتميزة مع دول الخليج العربي، وعلى وجه الخصوص دولة قطر. ومن المستحسن استثمار هذه العلاقة الثنائية في تحديث ملفات التعاون المشترك، ويعتبر اللقاء الذي جمع سفير دولة قطر ورئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو في الأيام الماضية، تمهيدًا لوضع خطط مشتركة لتعزيز الشراكة الإستراتيجية بين البلدين. ونظرًا لريادة دولة قطر في قطاع الطاقة، وحاجة السنغال إلى شريك استراتيجي لتحقيق التنمية المستدامة، فإن هذه الخطوة لها أهمية قصوى. ويضاف إلى ذلك زيارة وزير الطاقة والبترول والمناجم بيرام سُلي جوب لدولة قطر في الشهر الماضي، حيث قدم الوزير تقريرًا مفصلًا عن زيارته الرسمية في اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 12 يونيو/حزيران 2024.

وتتبنى القيادة الجديدة توجهًا يميل إلى إعادة دراسة الاتفاقيات السابقة في قطاعات النفط والغاز، وربما تهدف إلى إفساح المجال أمام المستثمرين الدوليين المؤثرين، مثل العرب الذين تم إبعادهم من قبل الحكومة السابقة لأسباب غير مقنعة. وهذا النوع من المبادرات يشجع المستثمرين الجدد من العالم العربي، ومن خلال ذلك تتمكن السلطة من تنويع مصادر الاقتصاد.

التبادل الثقافي:

إن حضور الإسلام واللغة العربية في السنغال راسخ الجذور، والدور الريادي للعالم العربي يجعله قادرًا على استغلال فرصة تفعيل الدبلوماسية الثقافية والدينية، والنظر في أوجه الاستفادة بالشراكة مع مكتب مديرية الشؤون الدينية في قصر الجمهورية المنشأة حديثًا بقرار من الرئيس باسيرو، والعمل على إحداث تأثير نوعي في الشؤون الاجتماعية والثقافية، عن طريق توقيع شراكات استراتيجية مع المؤسسات السنغالية التي تنهض بهذه المهمة، ومن بينها: مديرية دمج حملة الشهادات العربية في قصر الجمهورية، ووزارة الإعلام، ووزارة التعليم العالي، ووزارة التربية الوطنية، والهيئة العليا للوقف، والمشيخة الدينية السنغالية، والجامعات.

وبناءً على ذلك، فإن الدول العربية ذات التأثير الثقافي ستكون مرآة تعكس تجاربها الناجحة للسنغال، وستقدم لها الدعم اللازم.

وختامًا؛ تسعى القيادة السنغالية الجديدة إلى إقامة شراكات قوية لتحقيق أهدافها السياسية الطموحة، ويعتبر العالم العربي شريكًا مثاليًا للسنغال، لكونه يضم دولًا قادرة على التأثير في التفاعلات والأحداث العالمية في البيئة الجيوبوليتيكية التي تتحرك فيها، فضلًا عن توفر المناخ السياسي والديني والثقافي الملائم لنجاح هذا الدور.

ومما يبعث على الثقة في التعامل الاقتصادي مع السنغال، أن سياستها تتسم بالاستمرارية في الخطط والبرامج، على الرغم من اختلاف وجهات نظر الرؤساء المتعاقبين في الحكم، كما أن هناك حاجة ملحة من الدول الشريكة للسنغال في العالم العربي، لوضع خطط استثمارية ومشاريع إستراتيجية لدعمها في استغلال موارد النفط والغاز، وإدارتها بطريقة شفافة تعزز النمو الاقتصادي في البلاد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة